على إثر تلقي مرصد “أفاد” العديد من المناشدات عبر منصاته الرقمية في الأيام التي أعقبت موجة الأمطار الأخيرة في مدينة الموصل، حيال أحد أبرز الملفات الأخلاقية والإنسانية بالمدينة، والمتمثلة بجثث المئات من الضحايا، الذين ما يزالون رغم مرور أكثر من 3 سنوات على استعادة المدينة يقبعون تحت الأنقاض، تحرك فريق مرصد أفاد وزار العديد من المناطق المنكوبة في المدينة وتحديدا المدينة القديمة، ووضع اليد على جملة من الحقائق المروعة، التي ينبغي أن يُسأل عنها كل صناع القرار في الحكومة الاتحادية ببغداد، وحكومة محافظة نينوى المحلية.
على مدار الأسبوع الماضي زار فريق الرصد من الزملاء أعضاء المرصد تسعة مواقع في مدينة الموصل، وحقق عدة لقاءات بعضها عبر الهاتف والأخرى واقعية، مع مسؤولين محليين وناشطين ومتطوعين وشهود عيان، فضلا عن لقاءات ميدانية مع السكان المحليين واتضحت خلالها جملة من المعلومات، التي من الضرورة معرفة الرأي العام العراقي بها، إذ لمس فريقنا محاذير وخشية لدى الكثير من السكان من الانتقاد أو التحدث بحرية عن المشاكل التي يعانون، منها بسبب نفوذ الفصائل المسلحة والتضييق الذي تمارسه جهات حكومية وحزبية في الموصل وضواحيها.
تأكد فريقنا أنه لغاية الآن ما يزال هناك المئات من رفات الضحايا تحت الأنقاض كثير منهم عبارة عن عوائل كاملة استشهدت في منازلها بفعل القصف الجوي والصاروخي الذي طال المدينة وهناك عشرات الآلاف بين قتيل وجريح ومفقود وأن نحو 70 بالمائة منهم في مناطق وأحياء القليعات، الإمام إبراهيم، الشهوان، رأس الكور، الشفاء، المشاهدة، باب سنجار، البورصة، الفاروق القديم، الفاروق الجديد، باب البيض، الساعة، الطيانة، المحطة، محلة اليهود، عبد خوب، حضيرة السادة، الأحمدية، خزرج، حمام المنقوشة، الجماسة، النبي جرجيس، عمو البقال، إضافة إلى موصل الجديدة ومناطق أخرى محاذية لنهر دجلة خاصة بالجزء الغربي للموصل.
لقد تمت مقاطعة المعلومات مع أكثر من مسؤول ومصدر مطلع في مدينة الموصل، العاصمة المحلية لمحافظة نينوى، وكانت الأرقام المتوقعة لجثث الضحايا المدنيين التي ما تزال تحت الأنقاض لغاية الآن، بالاعتماد على إبلاغات ذويهم وأقربائهم أو الجيران أو أفراد الأمن بالإفادات القانونية بين 700 إلى 1000 جثة، لكن هذا العدد يتضاعف إلى الضعفين في حال احتساب الجثث والمواقع التي تحوي رفات مدنيين، ولم يتم الإبلاغ عنها بشكل قانوني وتسجل ضمن المواقع المشخصة بوجود جثث.
تأكد مرصد “أفاد”، وبالاستناد إلى جملة وثائق ومعلومات، من سجلات المقابر في المدينة ولموظفين في الدفاع المدني ودائرة بلدية الموصل وقائممقامية الموصل، ووحدة الجهد الهندسي بوجود اتفاق ضمني يعود إلى حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، واستمر العمل به بحكومة عادل عبد المهدي ورئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، على عدم استخراج ضحايا القصف والعمليات العسكرية مرة واحدة، خشية من افتضاح العدد الكبير للضحايا المدنيين الذين سقطوا خلال عمليات استعادة السيطرة على المدينة، من خلال ترك ملف الجثث المجهولة تدريجيا بحيث لا تستخرج أعداد كبيرة في المرة الواحدة، لذا ترك الأمر بالسنوات الثلاث الماضية على حملات خجولة، وعرقلت خلالها السلطاتُ حملات ناشطين مدنيين في هذا الأمر وأوقفتها، ويسجل مرصد أفاد تقديره لفريق تطوعي من بغداد ومدن جنوبي البلاد، ساهموا في هذا الملف عام 2018 لكن تم إيقاف عملهم بالتضييق عليهم بعد استخراجهم عددا كبيرا من رفات الضحايا.
ما تزال عمليات العثور على جثث الضحايا (الرفات)، رهن الصدفة من قبل أقرباء الضحايا، أو عمليات الترميم ورفع الأنقاض، وتتواصل خلال ذلك سحق الكثير من عظام ورفات وأجزاء من الضحايا تحت إطارات الجرافات وآلات الحفر والرفع، يشجع على ذلك جشع تجار السكراب والأنقاض الذين يواصلون تجارتهم بشكل ساهم في إنهاء الأمل في توفير قبور معروفة على أقل تقدير للضحايا الذين قضوا بفعل القصف.
يعاني السكان في المنازل القريبة من البيوت المنكوبة المدمرة من الروائح التي تنبعث بعد المطر أو هبوب رياح شرقية على المدينة، إذ تتحول أجواء بعض الأحياء إلى رائحة موتى، فضلا عما تتسبب به من آثار نفسية على السكان فهي خطرة على صحة الأهالي .
تم التعرف في الأيام الماضية على رفات أسرة كاملة تبين من طول عظم الساق والجماجم والملابس أنها لعائلة استشهدت نتيجة قصف منزلها. كما سجل مرصد أفاد شكاوى وإفادات شهود عيان ومصادر طبية بأن هناك العشرات من رفات ممن تم العثور عليهم، تم اعتبارها عائدة لمسلحين من عناصر تنظيم “داعش”، للتخلص من المسؤولية الأخلاقية والقانونية، رغم أن بعضها ثبتت عائديتها لسيدات من خلال الملابس أو عُرض عظم الحوض وأخرى لأطفال يتضح ذلك من طول عظم الساق أو قطر الجمجمة.
بحسب سجلات مقابر المدينة فإن عدد من تم استخراج رفاتهم هو 3150 مدنيا تم التعرف عليهم منذ بدء عمليات البحث في تموز 2016، كما أن هناك رفاتا لنحو 5 آلاف مدني تم انتشالها في عموم مدن محافظة نينوى اعتبرت من مجهولي الهوية، 3 آلاف منها في الموصل وحدها، قسم منهم يظهر من ملابسهم أنهم من مسلحي تنظيم “داعش”، وقسم منهم لمدنيين لم يتم التعرف على أسمائهم (أطفال ونساء ورجال) وجد معظمهم تحت سقوف منازل ومبانٍ سكنية.
كما يؤكد أطباء ومتطوعون أن قسما من الضحايا دفنوا أحياء وكانت هناك إمكانية إنقاذ الكثير منهم واستخراجهم من تحت الأنقاض في الأيام الخمسة الأولى، لكن السلطات لم تكن مهتمة أساسا لهذه القضية. كما تؤكد الأرقام الموجودة في قيادة عمليات نينوى وجود نحو 85 موقعا في محافظة نينوى عبارة عن مقابر جماعية، وجدت بين عامي 2014 وحتى نهاية 2016، يرجح أنها تحوي رفات آلاف الأشخاص، أبرزها الخسفة، وتل عنتر، ومفرق بادوش، والعياضة، والبعاج، وسنجار، والحضر، وحمام العليل، وطريق كركوك القديم.
تنطوي مآس كثيرة غير تلك المرتبطة بحقيقة أن عراقيين قتلوا تحت سقوف منازلهم، وما يزالون حتى الآن تحتها بتعمد أو إهمال حكومي، وهي أن السلطات الحكومية لا تروج معاملة متوفٍ أو شهيد إلا بوجود جثة، وأغلب الجثث إما إنها تحت الأنقاض أو سُحقت بالجرافات وتفرقت بين شاحنات نقل السكراب، ومن أصل 55 ألف معاملة تعويض لمنازل مدمرة في الموصل هناك ألفا معاملة فقط انجزتها اللجنة الحكومية بينما ما تزال الأخرى في بغداد ترفض التمرير بحجج مختلفة.
ما تزال وزارة الصحة ترفض تزويد الموصل بـ“جهاز فحص DNA” ما يسهل معرفة رفات الضحايا وعدم تزوير هوياتهم من مواطنين إلى عبارة (إرهابيين من عناصر داعش). كما وقام الجهد الهندسي التابع للجيش أخيرا بعملية حفر وتنقيب بحثا عن سراديب وأنفاق لداعش، لكن ما حدث هو أنه صادف الكثير من رفات الضحايا ولم يعر لها اهتماما، بل أن قسما منه تم إهانته والعبث بالعظام وتركها مبعثرة دون إكرام لها أو التعامل معه وفقا للقانون. وبسبب جائحة كورونا وتراجع الدعم المالي للكثير من المنظمات المحلية والأممية، يمكن القول إن عمليات تضييق مساحة مشكلة الجثث في الموصل توقفت، وباتت محصورة على الأهالي وبعض الجهود التطوعية وبأساليب متواضعة، ويتم نقلها بكراتين البيض والفواكه بشكل لا يليق بتكريم الإنسان.
يحمّل مرصد أفاد السلطات الحكومية العراقية المسؤولية الأخلاقية والقانونية، من بقاء ملف جثث مئات الموصليين تحت الأنقاض لغاية الآن، وكذلك مسؤولية عمليات العبث وعدم احترام قدسية رفات الموتى، ويطالب بالكشف عن سبب عرقلة جهود إطلاق حملة شاملة لاستخراجها لأن دخول العام الرابع والجثث تحت الأنقاض يؤكد أن هناك تورطا حكوميا بمحاولة التكتم على الجرائم، التي ارتكبت في معركة الموصل بحق الأبرياء، بمحاولة لمنع ظهور عدد الضحايا المقتولين مرة واحدة وجعل ذلك على شكل (أقساط) وهو التعبير الذي استخدمه آمر فوج في وحدة الدفاع المدني التي تشارك في عمليات الاستجابة لرفع الرفات التي تظهر على سطح الأرض بفعل عمليات التعرية، أو استخراج القوارض والحيوانات السائبة لها.
لايوجد تعليقات