من المقرر أن يبدأ البرلمان العراقي خلال الأيام المقبلة قراءته الأولى لمشروع الموازنة المالية للعام الحالي 2021، وسط خذلان وخيبة أمل كبيرة لدى سكان مدن شمال وغرب العراق المنكوبة، جراء عدم تضمين أي فقرة تتعلق بتعويضات المواطنين المدمرة منازلهم ومتاجرهم ومصادر أرزاقهم، رغم وجود فقرات تعويض أخرى ضمنتها الحكومة في الموازنة المقدمة للبرلمان لشرائح أخرى، وهي بالتأكيد أقل أهمية من الملف الإنساني والأخلاقي الأول في العراق بإقرار الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وآخرها في جلسته المنعقدة بالحادي والعشرين من مايو العام 2019.
وأجرى القسم القانوني والحقوقي في “مرصد أفاد”، دراسة مستفيضة لفقرات وبنود الموازنة التي نشرتها القنوات الرسمية الحكومية نهاية ديسمبر الماضي، وأشّر جملة من المخالفات القانونية والدستورية، فضلا عن التمييز الواضح بين المناطق ضمن نهج حكومي اعتاد وللأسف العراقيون عليه منذ سنوات ليست بالقليلة، وهو ما يجعل البرلمان متورطا فيها إلى جانب الحكومة في حال مُررت فعلا مسودة الموازنة دون تخصيص أي مبالغ لتعويض المواطنين وعلى الأقل الذين تم تصنيفهم ضمن الحالات الحرجة (بلا مأوى).
وفقا لبيانات وتقارير وزارة التخطيط العراقية، وصندوق إعادة الإعمار، وتقرير الأمانة العامة لمجلس الوزراء، فإن العدد المسجل للوحدات السكنية التي تشمل المنازل المستقلة (الفيلا) والشقق والدور المشتركة داخل المجمعات السكنية، التي تدمرت بفعل العمليات الإرهابية والأخطاء العسكرية والقصف الجوي والصاروخي، 147 ألف وحدة موزعة في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وكركوك، بينما لم يتم مسح مناطق شمال بابل (جرف الصخر) ومناطق عدة من صلاح الدين ونينوى بسبب سيطرة جماعات مسلحة عليها تمنع دخول الجهات الحكومية إليها وكذلك أصحاب المنازل لمعاينة أملاكهم. كما لم يتم مسح محافظة ديالى ومناطق حزام العاصمة بغداد (صدر اليوسفية وأبو غريب والرضوانية والمحمودية)، ما يجعل الرقم مقاربا لتقديرات مسؤولين في وزارة التخطيط تواصل معهم “أفاد” إلى نحو 200 ألف وحدة سكنية منها أكثر من 90 ألف وحدة تعرضت لدمار كامل أو شبه كامل لا يصلح ترميه أو تأهيله.
كما سجل “المرصد” تدمير 1415 مصنعا وورشة إنتاجية بشكل كامل و3893 بشكل جزئي أخرجها عن الخدمة، كما سجل تدمير وتضرر قرابة 65 ألف محل تجاري موزعة بين محلات مواد استهلاكية وإنشائية وبضائع غذائية وملابس ومواد منزلية، عدا عن خسائر تقدر بنحو 750 ألف هكتار زراعي مع المعدات الخاصة بالفلاحين فيها.
بينما يبقى الملف الأهم هو عدد الشهداء الذين سقطوا جراء العمليات الإرهابية والأخطاء العسكرية، إذ نجحت الحكومات المتعاقبة تحويله من ملف إنساني إلى سياسي، متعمدة عدم تقديم أي أرقام تتعلق بعدد الضحايا منذ عام 2014 ولغاية نهاية العمليات العسكرية ضد تنظيم “داعش”، مطلع يناير 2017، لأسباب مرتبطة بحقيقة أن أعداد من قتلوا خلال المعارك من المدنيين ضمن المصنفين (أخطاء العمليات العسكرية) سواء بالقصف الجوي والصاروخي أو المعارك أو حملات التصفية الطائفية التي نفذتها الجماعات شبه العسكرية أكثر بكثير ممن قتلوا بالعمليات الإرهابية، فضلا عن أن أي كشف لأرقام الضحايا يستدعي الكشف عن كثير من جرائم التطهير الطائفية التي نفذتها جماعات شبه عسكرية مدعومة من الحكومة.
وعليه يرى مرصد “أفاد” عدم تقديم أي رقم محدد حول ذلك بالوقت الحالي لكنه يؤكد بالوقت نفسه بأن العدد يجب أن يبقى في سياق عشرات آلاف الضحايا ممن يشملهم قانون التعويضات للعام 2009 رقم (20). إن استمرار مماطلة الحكومة للعام الرابع على التوالي في تضمين أي فقرات متعلقة بالتعويضات للمواطنين العراقيين بمدن شمال وغرب العراق ووسطه ممن قتل أهاليهم، أو دمرت منازلهم ومصادر رزقهم، أو ممن أصيبوا بإعاقات تمنعهم من العمل، تمثل واحدة من أبرز أسباب استمرار الواقع المأساوي في تلك المناطق عامة والتي تشكل 48.7 من مساحة العراق الإجمالية ويقطنها نحو 15 مليون نسمة. رغم تضمين الموازنة العراقية في مشروعها المقدم إلى البرلمان عدة فقرات تعويض تتعلق بدفع مستحقات الفلاحيين في إقليم كردستان العراق ومحافظة ميسان، أو تعويض متضرري السيول.
إضافة إلى فقرات أخرى مثل تخصيص 199 مليون دولار لمشروع مجاري في النهروان وسبع البور والوحدة، أو تخصيص فقرة مستقلة لتطوير كورنيش في إحدى مدن وسط العراق، وتضمين مخصصات مالية لبرامج مثل دورات تثقيف المرأة وإقامة أسابيع ثقافية، ودعم وتأهيل المتنزهات، وعدد من الأندية الرياضية، فإنه من المعيب على البرلمان الموافقة عليها بالوقت الذي تتشرد آلاف الأسر وتعيش ظروفا قاسية بسبب تدمير منازلها وعدم إمكانية بناء ولو غرفة واحدة تأويهم على انقاضه.
إن الموازنة خالفت قوانين البرلمان العراقي بالسنوات 2017 و2018 بالتصويت على اعتبار بلدات ومدن كاملة منكوبة مثل الموصل وتلعفر وسنجار وتكريت والكرمة وهيت والقائم والرمادي، وكما معلوم أن الإعلان عن منطقة ما منكوبة يعني أنها باتت فعليا ضمن القانون النافذ بالمناطق المنكوبة لسنة 1957، والذي ينص على أن أي محافظة أو قضاء أو ناحية أو قصبة أو قرية تتعرض لخسائر في الأرواح والبنى التحتية وباقي أساسيات الحياة فيها، من جراء كوارث طبيعية، كالفيضانات وغيرها، أو أوبئة أو حوادث عرضية أو معارك أو اجتياح قوى خارجية. تلتزم الحكومة، بتسخير كافة إمكانيات الدولة لها، بما فيها موازنة الطوارئ أو نقل أموال من موازنة وزارة إلى أخرى، بهدف تقويم وضع المنطقة المنكوبة، وإعلان حالة طوارئ في كافة الوزارات الخدمية، وأن تتوقف المشاريع غير المهمة في عموم مدن البلاد، على أن يتم التركيز، مالياً وخدمياً، على المنطقة المنكوبة.
ما يزال الإهمال يتسبب بتشريد عشرات آلاف الأسر وتعطيل فرص العمال والحياة، بشكل تسبب في رفع نسب الفقر لمستويات قياسية بلغت في نوفمبر الماضي، وفقا لمسوحات ميدانية غير رسمية، إلى أكثر من 50 بالمائة من بلدات مثل الحويجة والشرقاط والبعاج والقائم وبيجي والكرمة والرطبة، على سبيل المثال لا الحصر.
ويضع مرصد “أفاد” السادة أعضاء البرلمان العراقي عامة ونواب المدن المنكوبة ورئاسة البرلمان على وجه التحديد أمام مسؤولية أخلاقية وتاريخية في الوقوف بالضد من تكرار تنصل الحكومات الثلاث المتعاقبة بدءا من حكومة السيد حيدر العبادي مرورا بحكومة عادل عبد المهدي وأخيرا حكومة مصطفى الكاظمي، من ملف تعويض المتضررين.
وبحسب الدستور العراقي النافذ للعام 2005، فإن السلطات تتحمل مسؤولية الإخفاف في حماية المواطنين والحفاظ على أمنهم وممتلكاتهم، وهو ما أخفقت به حكومة نوري المالكي التي غادرت بفاتورة كبيرة من الجرائم والانتهاكات المروعة عدا عن مستنقعات الفساد المالي الكبيرة.
كما ويطالب المرصد بإلزام الحكومة في إضافة بند مستقل لتعويض المواطنين إنفاذا للقانون قبل كل شيء آخر، وفي حال التذرع بالأزمة المالية فيمكن اعتماد تقسيم الأمم المتحدة لعام 2017 التي صنفت سكان المناطق إلى فئات حرجة تستدعي المساعدة العاجلة وأخرى غير ذلك، وفي حال لم يتحقق ذلك فإنهم يتحملون مسؤولية الواقع المزري والفقر الذي غصت به أرصفة هذه المدن بالأشهر الأخيرة التي تلت جائحة كورونا.
لايوجد تعليقات